فصل: فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج السُّمِّ الذي أصابه بخَيْبَر من اليهود

ذكر عبد الرزَّاق، عن معمر، عن الزُّهْرىِّ، عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك‏:‏ أنَّ امرأةً يهوديةً أهدَتْ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم شاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَر، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذه‏)‏ ‏؟‏ قالتْ‏:‏ هَديَّةٌ، وحَذِرَتْ أن تقولَ‏:‏ مِنَ الصَّدَقة، فلا يأكلُ منها، فأكل النبِىُّ صلى الله عليه وسلم، وأكل الصحابةُ، ثُم قال‏:‏ ‏(‏أمسِكُوا‏)‏، ثم قال للمرأة‏:‏ ‏(‏هل سَمَمْتِ هذه الشَّاة‏)‏ ‏؟‏ قالتْ‏:‏ مَن أخبَرَك بهذا ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هذا العظمُ لساقها‏)‏، وهو في يده، قالتْ‏:‏ نعمْ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لِمَ‏)‏ ‏؟‏ قالتْ‏:‏ أردتُ إن كنتَ كاذباً أن يَستريحَ منك النَّاسُ، وإن كنتَ نبيّاً لم يَضرَّك، قال‏:‏ فاحتَجَم النبىُّ صلى الله عليه وسلم ثلاثةً على الكاهِلِ، وأمَرَ أصحابَه أن يَحتجِمُوا؛ فاحتَجَموا، فمات بعضُهم‏.‏

وفى طريق أُخرى‏:‏ ‏(‏واحتَجَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كاهِلِه مِنْ أجْل الذي أكَلَ من الشَّاة، حَجَمَه أبو هِندٍ بالقَرْنِ والشَّفْرة، وهو مولىً لبنى بَيَاضَةَ من الأنصار، وبقى بعد ذلك ثلاثَ سنين حتى كان وجعُه الذي تُوفى فيه، فقال‏:‏ ‏(‏ما زِلْتُ أجِدُ من الأُكْلَةِ التي أكَلْتُ مِن الشَّاةِ يومَ خَيْبَرَ حتى كان هذا أوانَ انْقِطَاعِ الأَبْهَرِ مِنِّى‏)‏، فتُوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً، قاله موسى بن عُقبةَ‏.‏

معالجةُ السُّمِّ تكونُ بالاستفراغات، وبالأدوية التي تُعارض فعل السُّم وتُبطله، إما بكيفياتها، وإما بخواصها‏.‏ فمَن عَدِمَ الدواءَ، فليبادر إلى الاستفراغ الكُلِّى وأنفعُه الحجامةُ، ولا سيما إذا كان البلد حاراً، والزمانُ حاراً، فإن القوة السُّمِيَّةَ تَسرى إلى الدم، فتَنبعِثُ في العروق والمجارى حتى تصِلَ إلى القلب، فيكون الهلاكُ، فالدمُ هو المنفذ الموصل للسُّم إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسمُومُ وأخرج الدم، خرجتْ معه تلك الكيفيةُ السُّمِيَّة التي خالطتْه، فإن كان استفراغاً تاماً لم يَضرَّه السُّم، بل إما أن يَذهبَ، وإما أن يَضعفَ فتقوى عليه الطبيعة، فتُبطل فعلَه أو تُضعفه‏.‏

ولما احتجم النبىُّ صلى الله عليه وسلم، احتجمَ في الكاهل، وهو أقربُ المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فخرجت المادةُ السُّمِيَّة مع الدم لا خُروجاً كُليّاً، بل بَقِىَ أثرُها مع ضعفه لما يُريد الله سبحانه من تكميلِ مراتبِ الفضل كُلِّها له، فلما أراد الله إكرامَه بالشهادة، ظهر تأثيرُ ذلك الأثر الكامِن من السُّم ليَقضىَ اللهُ أمراً كان مفعولاً، وظهر سِرُّ قوله تعالى لأعدائه من اليهود‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ‏}‏ ‏[‏البفرة ‏:‏ 87‏]‏، فجاء بلفظ ‏(‏كَذَّبتم‏)‏ بالماضى الذي قد وقع منه، وتحقق، وجاء بلفظ‏:‏ ‏(‏تَقتلُون‏)‏ بالمستقبل الذي يتوقَّعونه ويَنتظرونه‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج السِّحر الذي سحرته اليهودُ به

قد أنكر هذا طائفةٌ من الناس، وقالوا‏:‏ لا يجوزُ هذا عليه، وظنوه نقصاً وعيباً، وليس الأمرُ كما زَعَموا، بل هو من جنس ما كان يَعتَريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابتُه به كإصابته بالسُّمِّ لا فرقَ بينهما‏.‏وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت‏:‏ ‏(‏سُحِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى إنْ كان لَيُخَيَّلُ إليه أنه يأتى نِساءه، ولم يَأتِهِنَّ‏)‏، وذلك أشدُّ ما يكون مِن السِّحر‏.‏

قال القاضى عِيَاض‏:‏ والسِّحر مرضٌ من الأمراض، وعارضٌ من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض ممَّا لا يُنكَرُ، ولا يَقدَحُ في نُبوته، وأمَّا كونُه يُخيَّل إليه أنه فعل الشىء ولم يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلةً في شىء من صدقه، لقيام الدليل والإجماعِ على عصمته من هذا، وإنَّما هذا فيما يجوز طُرُوُّه عليه في أمر دنياه التي لم يُبعث لسببها، ولا فُضِّل مِن أجلها، وهو فيها عُرضةٌ للآفات كسائر البَشَر، فغيرُ بعيد أنه يُخيَّلَ إليه من أُمورها ما لا حقيقةَ له، ثم يَنجلى عنه كما كان‏.‏

والمقصود‏:‏ ذِكرُ هَدْيِه في علاج هذا المرض، وقد رُوى عنه فيه نوعان‏:‏

أحدهما وهو أبلغُهما ‏:‏ استخراجُه وإبطاله، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربَّه سبحانه في ذلك؛ فدُلَّ عليه، فاستَخْرَجه من بئر، فكان في مِشْطٍ ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَر، فلمَّا استَخْرَجه، ذهب ما به، حتى كأنَّما أُنْشِطَ من عِقال، فهذا من أبلغ ما يُعالَجُ به المَطْبُوبُ، وهذا بمنزلة إزالةِ المادة الخبيثة وقلْعِها مِن الجسد بالاستفراغ‏.‏

والنوع الثانى‏:‏ الاستفراغُ في المحل الذي يَصِلُ إليه أذى السِّحر، فإنَّ للسِّحر تأثيراً في الطبيعة، وهَيَجانِ أخلاطها، وتشويشِ مِزاجها، فإذا ظهر أثرُهُ في عضو، وأمكن استفراغُ المادة الرديئة من ذلك العضو، نَفَع جداً‏.‏

وقد ذكر أبو عُبيدٍ في كتاب ‏(‏غريب الحديث‏)‏ له بإسناده، عن عبد الرحمن بن أبى لَيْلَى، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجمَ على رأسه بقَرْنٍ حين طُبَّ، قال أبو عُبيد‏:‏ معنى طُبَّ‏:‏ أى‏:‏ سُحِرَ‏.‏

وقد أشكَل هذا على مَن قَلَّ علمُه، وقال‏:‏ ما للحجامة والسِّحرِ ‏؟‏ وما الرابطةُ بين هذا الداء وهذا الدواء ‏؟‏ ولو وَجد هذا القائلُ ‏(‏أبقراطَ‏)‏، أو ‏(‏ابنَ سينا‏)‏ أو غيرَهما قد نَصَّ على هذا العلاجِ، لَتَلقَّاه بالقبولِ والتسليم، وقال‏:‏ قد نَصَّ عليه مَن لا يُشَكُّ في معرفته وفضله‏.‏

فاعلم أنَّ مادة السِّحر الذي أُصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قُواه التي فيه بحيث كان يُخيَّل إليه أنه يفعل الشىءَ ولم يفعله، وهذا تصرُّف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه، فغيَّرت مِزاجه عن طبيعته الأصلية‏.‏

والسِّحر‏:‏ هو مركَّب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القُوَى الطبيعية عنها وهو سحر التمريحات وهو أشدَّ ما يكون من السِّحر، ولا سيَّما في الموضع الذي انتهى السِّحرُ إليه، واستعمالُ الحجامةِ على ذلك المكان الذي تضررت أفعالُه بالسِّحر من أنفع المعالجة إذا استُعْمِلتْ على القانون الذي ينبغى‏.‏

قال ‏(‏أبقراط‏)‏‏:‏ الأشياءُ التي ينبغى أن تُسْتَفْرَغَ يجب أَن تُستفرغ من المواضع التي هي إليها أميلُ بالأشياء التي تصلُح لاستفراغها‏.‏

وقالت طائفة من الناس‏:‏ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما أُصيب بهذا الداءِ، وكان يُخيَّل إليه أنه فعل الشىء ولم يفعله،ظَنَّ أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدَّم منه، فأزالت مِزاجه عن الحالة الطبيعية له، وكان استعمالُ الحجامة إذ ذاك مِن أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة، فاحتجم، وكان ذلك قبل أن يُوحى إليه أنَّ ذلك من السِّحر، فلما جاءه الوحىُ من الله تعالى، وأخبره أنه قد سُحِرَ، عدل إلى العلاج الحقيقىِّ وهو استخراجُ السِّحر وإبطالُه، فسأل الله سبحانه، فدلَّه على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أُنْشِطَ من عِقال، وكان غايةُ هذا السِّحر فيه إنما هو في جسده، وظاهِر جوارحه، لا على عقلِه وقلبِه، ولذلك لم يكن يعتقدُ صحة ما يُخيَّل إليه من إتيان النساء، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثلُ هذا قد يَحدُثُ من بعض الأمراض‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في أنَّ الأدوية الإلهية هي أنفع علاجات السِّحر

ومن أنفع علاجات السِّحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويتُه النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفْلية، ودفعُ تأثيرها يكون بما يُعارِضُها ويُقاومها من الأذكار، والآيات، والدعواتِ التي تُبْطِلُ فعلها وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشدّ، كانت أبلغَ في النُّشْرةِ، وذلك بمنزلة التقاءِ جيشين مع كلِّ واحدٍ منهما عُدَّتُه وسلاحُه، فأيُّهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له، فالقلبُ إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره، وله من التوجُّهات والدعوات والأذكار والتعوُّذات وردٌ لا يُخِلُّ به يُطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا مِن أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السِّحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يُصيبه‏.‏

وعند السَّحَرَة‏:‏ أنَّ سِحرَهم إنما يَتِمُّ تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعِلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلَّقةٌ بالسُّفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثِّر في النساءِ، والصبيان، والجُهَّال، وأهل البوادى، ومَن ضَعُف حظُّه من الدين والتوكل والتوحيد، ومَن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوُّذات النبوية‏.‏

وبالجملة‏.‏‏.‏ فسلطانُ تأثيرِه في القُلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلُها إلى السُّفليات، قالوا‏:‏ والمسحورُ هو الذي يُعين على نفسه، فإنَّا نجد قلبه متعلقاً بشىء كثير الالتفات إليه، فيتسلَّط على قلبه بما فيه مِن الميل والالتفات، والأرواح الخبيثة إنما تتسلَّطُ على أرواح تلقاها مستعِدَّة لتسلُّطِها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغِها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّة التي تُحاربها بها، فتجدها فارغة لا عُدَّة معها، وفيها مَيلٌ إلى ما يُناسبها؛ فتتسلَّط عليها، ويتمَكَّن تأثيرُها فيها بالسِّحر وغيره‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الاستفراغ بالقىء

روى الترمذىُّ في ‏(‏جامعه‏)‏ عن مَعدان بن أبى طلحةَ، عن أبى الدرداء‏:‏ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قاءَ، فتوضَّأ فلقيتُ ثَوْبان في مسجد دِمَشق، فذكرتُ له ذلك، فقال‏:‏ صَدَقَ، أنا صَبَبْتُ له وَضُوءَه‏.‏ قال الترمذى‏:‏ وهذا أصح شىء في الباب‏.‏

القىءُ‏:‏ أحد الاستفراغات الخمسة التي هي أُصول الاستفراغ، وهى‏:‏ الإسهال، والقىء، وإخراج الدم، وخروج الأبخرة والعَرق‏.‏ وقد جاءت بها السُّـنَّة‏.‏

فأما الإسهال‏.‏‏.‏ فقد مرَّ في حديث‏:‏ ‏(‏خيرُ ما تداويتم به المَشِىُّ‏)‏ وفى حديث ‏(‏السَّنا‏)‏‏.‏ وأما إخراج الدم‏.‏‏.‏ فقد تقدَّم في أحاديث الحِجامة‏.‏

وأما استفراغ الأبخرة‏.‏‏.‏ فنذكره عقيبَ هذا الفصل إن شاء الله‏.‏

وأما الاستفراغ بالعَرق‏.‏‏.‏ فلا يكون غالباً بالقصد، بل بدفع الطَّبيعة له إلى ظاهر الجسد، فيُصادف المسامَّ مفتَّحةً، فيخرج منها‏.‏

والقىءُ استفراغٌ من أعلا المَعِدَة، والحُقنة من أسفلها، والدواءُ من أعلاها وأسفلها‏.‏

والقىءُ نوعان‏:‏ نوعٌ بالغَلَبة والهَيجان، ونوعٌ بالاستدعاء والطلب‏.‏

فأما الأول‏:‏ فلا يَسُوغُ حبسُه ودفعه إلا إذا أفرط وخِيف منه التلفُ، فيُقطع بالأشياء التي تُمسكه‏.‏ وأما الثانى‏:‏ فأنفعُه عند الحاجة إذا رُوعى زمانُه وشروطه التي تُذكر‏.‏

وأسباب القىء عشرة‏.‏‏.‏

أحدها‏:‏ غلبة المِرَّة الصفراء، وطُفوُّها على رأس المعدة، فتطلب الصعودَ‏.‏

الثانى‏:‏ من غلبة بلغم لَزِجٍ قد تحرَّك في المَعِدَة، واحتاج إلى الخروج‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون مِن ضعف المَعِدَة في ذاتها، فلا تَهْضم الطعام، فتقذفه إلى جهة فوق

الرابع‏:‏ أن يُخالطها خلط ردىء ينصبُّ إليها، فيسىء هضمَها، ويُضعف فعلها

الخامس‏:‏ أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المَعِدَة، فتعجز عن إمساكه، فتطلب دفعه وقذفه‏.‏

السادس‏:‏ أن يكون مِن عدم موافقة المأكول والمشروب لها، وكراهِتها له، فتطلب دفعه وقذفه‏.‏

السابع‏:‏ أن يحصُل فيها ما يُثوِّر الطعامَ بكيفيته وطبيعته، فتقذف به‏.‏

الثامن‏:‏ القَرَف، وهو مُوجِب غثَيانِ النفس وتَهَوُّعِها‏.‏

التاسع‏:‏ من الأعراض النفسانية، كالهمِّ الشديد، والغم، والحزن، وغلبة اشتغال الطبيعة والقُوَى الطبيعية به، واهتمامها بوروده عن تدبير البدن، وإصلاح الغِذاء، وإنضاجه، وهضمه، فتقذِفُه المَعِدَة، وقد يكون لأجل تحرُّك الأخلاط عند تخبُّط النفس، فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه، ويؤثر في كيفيته‏.‏

العاشر‏:‏ نقل الطبيعة بأن يرى مَن يتقيأ، فيغلبه هو القىء من غير استدعاء، فإن الطبيعة نَقَّالة‏.‏

وأخبرنى بعض حُذَّاق الأطباء، قال‏:‏ كان لى ابن أُخت حَذِق في الكحْل، فجلس كحَّالاً‏.‏ فكان إذا فتح عينَ الرجل، ورأى الرَّمد وكحَّله، رَمِد هو، وتكرر ذلك منه، فترك الجلوسَ‏.‏ قلتُ له‏:‏ فما سببُ ذلك ‏؟‏ قال‏:‏ نقلُ الطبيعة، فإنها نَقَّالة، قال‏:‏ وأعرِفُ آخرَ، كان رأى خُراجاً في موضع من جسم رجل يحكُّه، فحك هو ذلك الموضع، فخرجت فيه خُراجة‏.‏

قلتُ‏:‏ وكلُّ هذا لا بد فيه من استعداد الطبيعة، وتكون المادة ساكنةً فيها غير متحركة، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب، فهذه أسبابٌ لتحرك المادة لا أنها هي الموجبة لهذا العارض‏.‏

فصل‏:‏ في أنَّ القىء أنفع في البلاد الحارة والإسهال أنفع في البلاد الباردة

ولما كانت الأخلاط في البلاد الحارة، والأزمنة الحارة تَرِقُّ وتنجذب إلى فوق، كان القىء فيها أنفع‏.‏ ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلُظ، ويصعب جذبها إلى فوق، كان استفراغُها بالإسهال أنفع‏.‏

وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والاستفراغ، والجذبُ يكون من أبعد الطُرُق، والاستفراغُ مِن أقربها، والفرق بينهما أنَّ المادة إذا كانت عاملة في الانصباب أو الترقى لم تستقر بعد، فهى محتاجة إلى الجذب، فإن كانت متصاعدة جذبَتْ من أسفل، وإن كانت منصَبَّة جذبَتْ مِن فوق، وأما إذا استقرت في موضعها، استُفرغت مِن أقرب الطرق إليها، فمتى أضرَّت المادة بالأعضاء العليا، اجتُذبت من أسفل، ومتى أضرَّت بالأعضاء السفلى، اجتُذبت من فوق، ومتى استقرت، استُفرغت من أقرب مكان إليها، ولهذا احتجم النبىُّ صلى الله عليه وسلم على كاهِله تارة، وفى رأسه أُخرى، وعلى ظهر قدمه تارة، فكان يستفرِغُ مادة الدم المؤذى من أقرب مكان إليه‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في بعض فوائد القىء

والقىءُ يُنقِّى المَعِدَة ويُقوِّيها، ويُحِدُّ البصر، ويزيل ثقل الرأس، وينفع قروح الكُلَى، والمثانة، والأمراض المزمنة‏:‏ كالجذام، والاستسقاء، والفالِج، والرَّعشة، وينفع اليَرَقان‏.‏

وينبغى أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور، ليتداركَ الثانى ما قصر عنه الأول، وينقى الفضلاتِ التي انصبَّت بسببه، والإكثارُ منه يَضر المَعِدَة، ويجعلها قابلة للفضول، ويضر بالأسنان والبصر والسمع، وربما صَدَعَ عَرَقاً، ويجب أن يجتنبه مَن به ورمٌ في الحلق، أو ضعفٌ في الصدر، أو دقيقُ الرقبة، أو مستعدٌ لنَفْث الدم، أو عَسِرُ الإجابة له‏.‏

وأمَّا ما يفعله كثير ممن يسىء التدبير، وهو أن يمتلئ من الطعام، ثم يَقذِفَه، ففيه آفاتٌ عديدة؛ منها‏:‏ أنه يُعَجِّلُ الهَرَم، ويُوقع في أمراض رديئة، ويَجعل القىءَ له عادة‏.‏ والقىءُ مع اليُبوسة، وضعفِ الأحشاء، وهُزالِ المَرَاقِّ، أو ضعفِ المُستقىء خطرٌ‏.‏

وأحمَدُ أوقاتِه الصيفُ والربيع دون الشتاء والخريف، وينبغى عند القىء أن يَعْصِبَ العينين، ويقمط البطن، ويغسِلَ الوجه بماء بارد عند الفراغ؛ وأن يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مُصْطَكَى، وماءُ الورد ينفعه نفعاً بيِّناً‏.‏

والقىء يستفرغ من أعلى المعدة، ويجذب من أسفل، والإسهال بالعكس، قال ‏(‏أبقراط‏)‏‏:‏ وينبغى أن يكون الاستفراغ في الصيف من فوق أكثرَ من الاستفراغ بالدواء، وفى الشتاء من أسفل‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحْذَق الطَّبِيبَيْن

ذكر مالك في ‏(‏موطئه‏)‏‏:‏ عن زيد بن أسلمَ، أنَّ رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جُرْحٌ، فاحتَقَن الجُرْحُ الدَّم‏.‏ وأن الرجلَ دعا رجُلَيْن من بنى أنمار، فنَظَرا إليه فزعما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال لهما‏:‏ ‏(‏أَيُّكما أطَبُّ‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ أوَ في الطِّبِّ خيرٌ يا رسولَ الله ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أنزلَ الدواءَ الذي أنزلَ الداء‏)‏‏.‏

ففى هذا الحديث أنه ينبغى الاستعانةُ في كل عِلم وصِناعة بأحذقِ مَنْ فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقربُ‏.‏

وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَزلَ به بالأعلم فالأعلم، لأنه أقربُ إصابةً ممَّن هُوَ دُونَه‏.‏

وكذلك مَن خَفيتْ عليه القِبْلةُ، فإنه يُقلِّدُ أعلمَ مَن يَجدُه، وعلى هذا فَطَر الله عبادَه، كما أن المسافر في البرِّ والبحر إنَّما سكونُ نفسه، وطمأنينتُه إلى أحْذقِ الدليلَيْن وأخبَرِهما، وله يَقصِدُ، وعليه يَعتمِدُ، فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ والفِطرةُ والعقلُ‏.‏

وقولُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنزل الدواءَ الذي أنزلَ الداءَ‏)‏، قد جاء مثلُه عنه في أحاديث كثيرةٍ، فمنها ما رواه عمرو بن دِينارٍ عن هِلال بن يِسَافٍ، قال‏:‏ ‏(‏دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على مريض يَعودُه، فقال‏:‏ ‏(‏أرسِلُوا إلى طَبيبٍ‏)‏، فقال قائلٌ‏:‏ وأنتَ تقولُ ذلك يا رسولَ الله ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏نعمْ، إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلاَّ أنزَلَ له دَواءً‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه‏:‏ ‏(‏ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزلَ له شفاء‏)‏، وقد تقدَّم هذا الحديثُ وغيرُه‏.‏

واختُلِفَ في معنى ‏(‏أنزل الداءَ والدواء‏)‏، فقالت طائفةٌ‏:‏ إنزالُه إعلامُ العِباد به، وليس بشىء، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بعموم الإنزال لكل داءٍ ودوائه، وأكثرُ الخلق لايعلمون ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه‏)‏‏.‏

وقالت طائفةٌ‏:‏ إنزالُهما‏:‏ خَلْقُهما ووضْعُهما في الأرض، كما في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏إنَّ الله لم يَضعْ داءً إلاَّ وَضَعَ له دواءً‏)‏، وهذا وإن كان أقربَ مِن الذي قبله، فلَفْظةُ ‏(‏الإنزال‏)‏ أخصُّ من لفظة ‏(‏الخلق‏)‏ و‏(‏الوضع‏)‏، فلا ينبغى إسقاطُ خصوصيةِ اللَّفظة بلا موجِب‏.‏

وقالت طائفةٌ‏:‏ إنزالُهما بواسطةِ الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغيرِ ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلَةٌ بأمر هذا العالَم، وأمر النوع الإنسانىِّ من حين سقوطِه في رَحِم أُمِّه إلى حين موتِه، فإنزالُ الداء والدواء مع الملائكة، وهذا أقربُ من الوجهين قبله‏.‏ وقالت طائفةٌ‏:‏ إنَّ عامة الأدواء والأَدوية هي بواسطة إنزال الغَيْثِ من السماء الذي تَتولَّد به الأغذيةُ، والأَقواتُ، والأدويةُ، والأدواءُ، وآلاتُ ذلك كله، وأسبابُه ومكمِّلاتُه؛ وما كان منها مِن المعادن العُلوية، فهى تَنزل مِن الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار، فداخلٌ في اللَّفظ على طريق التغليبِ والاكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأُمم، كقول الشاعر‏:‏

عَلفْتُها تِبْناً وَمَاءً بارداً ** حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَـا

وقول الآخر‏:‏

وَرأَيْتُ زَوْجكِ قَدْ غَدَا ** مُتَقَلِّداً سَيْفـاً وَرُمْحَــا

وقول الآخر‏:‏

إذَا مَا الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ** وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ وَالْعُيُونا

وهذا أحسنُ مما قبله من الوجوه‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وهذا من تمام حكمة الربِّ عَزَّ وجَلَّ، وتمامِ ربوبيته، فإنه كما ابتلى عبادَه بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّرَهُ لهم من الأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسناتِ الماحية والمصائب المكفِّرة، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثةِ من الشياطين، أعانهم عليها بجُنْدٍ من الأرواح الطيبة، وهم الملائكة، وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسَّرَهُ لهم شرعاً وقدْراً مِن المشتهيات اللَّذيذة النافعة، فما ابتلاهم سُبحانه بشىء إلا أعطاهم ما يستعينُون به على ذلك البلاء، ويدفعُونه به، ويبقى التفاوتُ بينهم في العلم بذلك، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه‏.‏‏.‏ وبالله المستعان‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في تضمين مَن طبَّ الناس وهو جَاهِلٌ بالطِّب

روى أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه، من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال‏:‏ قال رسول ُالله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ‏)‏‏.‏

هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أُمور‏:‏ أمرٌ لُغوى، وأمرٌ فِقهى، وأمرٌ طبى‏.‏

فالطِّب بكسر الطاء في لغة العرب، يقال على معانٍ‏.‏ منها الإصلاح‏.‏ يقال‏:‏ طببتُه‏:‏ إذا أصلحته‏.‏ ويقال‏:‏ له طِبٌ بالأمور‏.‏ أى‏:‏ لُطفٌ وسياسة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإذَا تغيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُها ** كُنْتَ الطَّبيبَ لَها بِرَأْىٍ ثَاقِبٍ

ومنها‏:‏ الحِذق‏.‏ قال الجوهرىُّ‏:‏ كلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب، قال أبو عبيد‏:‏ أصل الطِّب‏:‏ الحِذْق بالأشياء والمهارة بها‏.‏ يقال للرجل‏:‏ طب وطبيب‏:‏ إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض‏.‏ وقال غيرُه‏:‏ رجل طبيبٌ؛ أى‏:‏ حاذقٌ، سمى طبيباً لحِذقه وفِطْنته‏.‏ قال علقمة‏:‏

فَإنْ تَسْأَلُونى بِالنِّسَـــاءِ فَإنَّنى ** خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُـه ** فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ

وقال عنترةُ‏:‏

إنْ تُغْدِفِى دُونى الْقِــنَاعَ فَإنَّنِى ** طَبٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ

أى‏:‏ إن تُرخى عنى قِناعك، وتَستُرى وجهك رغبةً عنى، فإنى خبيرٌ حاذقٌ بأخذ الفارس الذي قد لبس لأَمةَ حربه‏.‏

ومنها‏:‏ العادة، يقال‏:‏ ليس ذلك بطِبِّى، أى‏:‏ عادتى، قال فَرْوةُ بن مُسَيكٍ‏:‏

فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِن ** مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا

وقال أحمد بن الحسين المتنبى‏:‏

وَمَا التِّيهُ طِبِّى فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِى ** بَغِيضٌ إلَىَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ

ومنها‏:‏ السِّحر؛ يقال‏:‏ رجل مطبوب، أى‏:‏ مسحور، وفى ‏(‏الصحيح‏)‏ من حديث عائشة لـمَّا سحرت يهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجلس الملَكَانِ عِنْدَ رأسه وعند رجليه، فقال أحدهما‏:‏ ما بالُ الرَّجُلِ ‏؟‏ قال الآخر‏:‏ مَطْبُوبٌ‏.‏ قال‏:‏ مَن طَبَّه ‏؟‏ قال‏:‏ فلان اليهودىُّ‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ إنما قالوا للمسحور‏:‏ مَطْبُوب؛ لأنهم كنَّوْا بالطِّبِّ عن السِّحر، كما كنَّوا عن اللَّديغ، فقالوا‏:‏ سليمٌ تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنَّوا بالمفازة عن الفلاة المُهلكة التي لا ماء فيها، فقالوا‏:‏ مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك‏.‏ ويقال الطِّبُّ لنفس الداء‏.‏ قال ابْنُ أبى الأسلت‏:‏

أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّى أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ ‏؟‏

وأما قول الحماسى‏:‏

فإن كُنْتَ مَطْبُوباً فَلا زِلْتَ هَكَذَا ** وإن كُنْتَ مَسْحُوراً فلا بَرِئَ السِّحْرُ

فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سُحِر، وأراد بالمسحور‏:‏ العليل بالمرض‏.‏

قال الجوهرى‏:‏ ويقال للعليل‏:‏ مسحور‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ ومعناه‏:‏ إن كان هذا الذي قد عرانى منكِ ومِن حُبِّك أسألُ اللهَ دوامه، ولا أريدُ زواله، سواء أكان سحراً أو مرضاً‏.‏

والطبُّ‏:‏ مثلثُ الطاء، فالمفتوح الطاءُ‏:‏ هو العالِم بالأُمور، وكذلك الطبيبُ يقال له‏:‏ طَب أيضاً‏.‏ والطِّبُّ‏:‏ بكسر الطاء‏:‏ فِعْلُ الطبيب، والطُّبُّ بضم الطاء‏:‏ اسم موضع‏.‏ قاله ابن السِّيد، وأنشد‏:‏

فَقُلْتُ هَل انْهَلْتُم بِطُبَّ رِكَابَكُمْ بِجَائِزَةِ الماءِ التي طَابَ طينُهَــا

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ تَطَبَّبَ‏)‏ ولم يقل‏:‏ مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال الشاعر‏:‏

* وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا *

وأما الأمر الشرعىُّ‏:‏ فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم‏.‏

قال الخطَّابىُّ‏:‏ لا أعلم خلافاً في أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه‏.‏

قلت‏:‏ الأقسام خمسة

أحدها‏:‏ طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده، فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ في وقت، وسِـنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه في وقته على الوجه الذي ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل في سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق‏.‏ وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى في إيجابهما الضمانَ في ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة‏.‏ وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً‏:‏ أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع‏.‏ فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه‏.‏ فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه في مَظِنَّة العُدوان‏.‏

فصل

القسمُ الثانى‏:‏ متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له في طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له في طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح‏.‏

فصل

القسم الثالث‏:‏ طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل‏:‏ أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة في ماله، أو في بيت المال ‏؟‏ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ إن كان الطبيب ذِمِّيا، ففى ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب في مال الجانى ‏؟‏ فيه وجهان أشهرهما‏:‏ سقوطها‏.‏

فصل

القسم الرابع‏:‏ الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته، اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ في اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما‏:‏ أنَّ دِيةَ المريض في بيت المال‏.‏ والثانية‏:‏ أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد في خطإ الإمام والحاكم‏.‏

فصل

القسم الخامس‏:‏ طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا‏:‏ يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ‏.‏ وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ في إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن‏.‏

قلتُ‏:‏ العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر‏.‏

فصل

والطبيبُ في هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذي يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن‏.‏

وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم‏.‏

فصل

والطبيب الحاذق‏:‏ هو الذي يراعى في علاجه عشرين أمراً‏:‏

أحدها‏:‏ النظر في نوع المرض من أى الأمراض هو ‏؟‏

الثانى‏:‏ النظر في سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التي كانت سببَ حدوثه ما هي ‏؟‏

الثالث‏:‏ قوة المريض، وهل هي مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه ‏؟‏ فإن كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً‏.‏

الرابع‏:‏ مزاج البدن الطبيعى ما هو ‏؟‏

الخامس‏:‏ المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى‏.‏

السادس‏:‏ سِنُّ المريض‏.‏

السابع‏:‏ عادته‏.‏

الثامن‏:‏ الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به‏.‏

التاسع‏:‏ بلدُ المريض وتُربتُه‏.‏

العاشر‏:‏ حال الهواء في وقت المرض‏.‏

الحادى عشر‏:‏ النظر في الدواء المضاد لتلك العِلَّة‏.‏

الثانى عشر‏:‏ النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض‏.‏

الثالث عشر‏:‏ ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه‏.‏

الرابع عشر‏:‏ أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة‏.‏

الخامس عشر‏:‏ أن ينظر في العِلَّة، هل هي مما يمكن علاجُها أو لا ‏؟‏ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً‏.‏ وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا ‏؟‏ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا ‏؟‏ فإن لم يمكن تقليلُها، ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة

السادس عشر‏:‏ ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه‏.‏

السابع عشر‏:‏ أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذي لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب‏.‏ وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر‏.‏ ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ في دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها في ذلك ونفعه‏.‏

الثامن عشر‏:‏ التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى‏.‏

التاسع عشر‏:‏ أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء في التخييل أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين‏.‏

العشرون‏:‏ وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان‏:‏ حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّـتَّة مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التي يرجع إليها، فليس بطبيب‏.‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

فصل

ولما كان للمرض أربعةُ أحوال‏:‏ ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ في كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها‏.‏ فإذا رأى في ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك في صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله‏:‏ أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب في هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه‏.‏

فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ في استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ في الانحطاط، كان أولى بذلك‏.‏ ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ في الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هي في ابتدائه، وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا الداء والدواء سواء‏.‏

فصل

وَمِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل، فلا يَعْدِلُ إلى الأصعب، ويتدَّرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فَوتَ القُوَّة حينئذ، فَيجبُ أن يبتدىء بالأقوى، ولا يُقيم في المعالجة على حال واحدة فتألفُها الطبيعة، ويَقِلُّ انفعالُها عنه، ولا تَجْسُر على الأدوية القوية في الفصول القوية، وقد تقدَّم أنه إذا أمكنه العِلاجُ بالغذاء، فلا يُعالِج بالدواء، وإذا أشكل عليه المرضُ أحارٌ هو أم بارد ‏؟‏ فلا يقدم حتى يتبيَّن له، ولا يُجرِّبه بما يخاف عاقبته، ولا بأس بتجرِبته بما لا يضرُّ أثرُه‏.‏

وإذا اجتمعت أمراض، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال‏:‏

إحداها‏:‏ أن يكون بُرء الآخر موقوفاً على بُرئه كالورم والقُرحة، فإنه يبدأ بالورم‏.‏

الثانية‏:‏ أن يكون أحدهُما سبباً للآخر، كالسَّدة والحُمَّى العَفِنة، فإنه يبدأ بإزالة السبب‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يكون أحدهما أهمَ من الآخر، كالحاد والمزمن، فيبدأ بالحاد‏.‏ ومع هذا فلا يغفُلُ عن الآخر‏.‏ وإذا اجتمع المرض والعَرَض، بدأ بالمرض، إلا أن يكون العَرَضُ أقوى كالقُولنج، فيُسكن الوجع أولاً، ثم يُعالج السَّدة‏.‏ وإذا أمكنه أن يعتاضَ عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم، لم يستفرغه، وكُلّ صحة أراد حفظها، حفظها بالمثل أو الشبه، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضلُ منها، نقلها بالضد‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها، وإرشاده الأصحاءَ إلى مجانبة أهلها

ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من حديث جابر بن عبد الله، أنه كان في وَفْد ثَقِيف رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ‏)‏‏.‏

وروى البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏ تعليقاً مِن حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن ابن ماجه‏)‏ من حديث ابن عباس، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبى هُريرة، قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ‏)‏‏.‏

ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كَلِّمْ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ‏)‏‏.‏

الجُذَام‏:‏ عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء في البدن كُلِّه، فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها، ورُبما فسد في آخره اتصالُها حتى تتأكَّلَ الأعضاء وتسقط، ويُسمى داءَ الأسد‏.‏

وفى هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء؛ أحدها‏:‏ أنها لِكثرة ما تعترى الأسد‏.‏ والثانى‏:‏ لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه في سُحنةَ الأسد‏.‏ والثالث‏:‏ أنه يفترِسُ مَن يقرُبه، أو يدنو منه بدائه افتراسَ الأسد‏.‏

وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة، ومقارِبُ المجذوم، وصاحبِ السِّل يَسْقَمُ برائحته، فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على الأُمة، ونُصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه وتُخالطه، فإنها نقَّالة، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة تلك العِلَّة لها، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع، وقد تَصِلُ رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه، وهذا معايَن في بعض الأمراض، والرائحةُ أحدُ أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله لذلك الداء، وقد تزوَّج النبىُّ صلى الله عليه وسلم امرأةً، فلما أراد الدخولَ بها، وجَد بكَشْحها بياضاً، فقال‏:‏ ‏(‏الْحَقِى بأهْلِكِ‏)‏‏.‏

وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ أُخَر تُبطلها وتُناقضها، فمنها‏:‏ ما رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمر ‏(‏ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيَدِ رجُلٍ مجذومٍ، فأدخلها معه في القَصْعَةِ، وقال‏:‏ ‏(‏كُلْ باسم الله، ثِقَةً بالله، وتوكُّلاً عليه‏)‏، ورواه ابن ماجه‏.‏

وبما ثبت في ‏(‏الصحيح‏)‏، عن أبى هُريرة، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا عَدوَى ولا طِّيَرَة‏)‏‏.‏

ونحن نقول‏:‏ لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة‏.‏ فإذا وقع التعارضُ، فإما أن يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه صلى الله عليه وسلم وقد غَلِطَ فيه بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتاً، فالثقةُ يَغْلَطُ، أو يكونُ أحدُ الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ، أو يكونُ التعارضُ في فهم السامع، لا في في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم، فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه الثلاثة‏.‏ وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه، ليس أحدُهما ناسخاً للآخر، فهذا لا يُوجد أصلاً، ومعاذَ اللهِ أن يُوجَدَ في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ، والآفةُ مِن التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القُصور في فهم مُراده صلى الله عليه وسلم، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً‏.‏ ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع‏.‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

قال ابن قتيبة في كتاب ‏(‏اختلاف الحديث‏)‏ له حكايةً عن أعداء الحديث وأهله‏:‏ قالوا ‏:‏ حديثان متناقضان رويتُم عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏لا عَدوَى ولا طِّيَرَة‏)‏ ‏.‏ وقيل له ‏:‏ إنَّ النُّقْبَةَ تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ ، فيجرَبُ لذلك الإبلُ ،

قال ‏:‏ ‏(‏فما أعدَى الأولَ‏)‏ ‏؟‏ ، ثم رويتُم ‏:‏ ‏(‏لا يُوردُ ذو عاهة على مُصِحٍّ‏)‏ و‏(‏وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ‏)‏ ، وأتاه رجل مجذوم ليُبايَعه بَيْعة الإسلام ، فأرسل إليه البَيْعةَ ، وأمَره بالانصراف ، ولم يأذن له ، وقال ‏:‏ ‏(‏الشُّؤمُ في المرأة والدارِ والدَّابةِ‏)‏ ‏.‏‏.‏ قالوا ‏:‏ وهذا كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه بعضُه بعضاً ‏.‏

قال أبو محمد ‏:‏ ونحن نقول ‏:‏ إنه ليس في هذا اختلافٌ ، ولكل معنى منها وقتٌ وموضع ، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف

والعدوى جنسان ؛ أحدهما ‏:‏ عدوى الجُذام ، فإنَّ المجذوم تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمُ مَن أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم ، فتُضاجِعُه في شِعارَ واحد ، فيُوصِل إليها الأذى ، وربما جُذِمَتْ ، وكذلك ولدُه يَنزِعُون في الكِبر إليه ، وكذلك مَن كان به سِلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ ‏.‏ والأطباء تأمر ألا يُجالَس المسلول ولا المجذُوم ، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى ، وإنما يُريدون به معنى تغيُّرِ الرائحة ، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها ، والأطباء أبعدُ الناس عن الإيمان بيُمن وشُؤم ، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَرَبٌ رَطبٌ فإذا خالط الإبلَ أو حاكَّها ، وأوَى في مَباركها ، وصل إليها بالماء الذي يَسيل منه، وبالنَّطف نحو ما به ، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبىُّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يُورَدُ ذو عاهة على مُصِح‏)‏ ، كَرِهَ أن يُخالط المَعْيُوه الصحيحَ ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه وحِكَّته نحو مما به ‏.‏

قال ‏:‏ وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى ، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد ، فيخرُج منه خوفَ العدوى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا وقَعَ بِبَلَدٍ وأنْتُم به ، فلا تَخْرُجُوا مِنْه ، وإذا كان بِبَلَدٍ ، فلا تَدْخُلُوه‏)‏ ‏.‏ يريد بقوله ‏:‏ لا تَخْرُجُوا مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن قَدَر الله يُنجيكم من الله ، ويُريد بقوله ‏:‏

‏(‏وإذا كان ببلد فلا تدخلوه‏)‏ ، أى ‏:‏ مُقامُكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسْكنُ لقلوبكم ، وأطيبُ لعيشكم ، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو الدارُ ، فينال الرجلَ مكروةٌ أو جائحةٌ ، فيقول ‏:‏ أعدتْنى بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا عَدْوَى‏)‏ ‏.‏

وقالت فِرْقة أُخرى ‏:‏ بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على الاستحباب ، والاختيار ، والإرشاد ‏.‏ وأما الأكل معه ، ففَعلُه لبيانِ الجواز ، وأنَّ هذا ليس بحرام ‏.‏

وقالت فِرْقة أُخرى ‏:‏ بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئى لا كلى ‏.‏ فكلُّ واحد خاطبه النبىُّ صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله ، فبعضُ الناس يكون قوىَّ الإيمان ، قوىَّ التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى ، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العِلَّة فتُبطلها ، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك ، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ ، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم فَعل الحالتين معاً ، لتقتدى به الأُمة فيهما ، فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة التوكل والقُوَّة والثقة بالله ، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط ، وهما طريقان صحيحان ‏.‏ أحدهما ‏:‏ للمؤمن القوى ، والآخر ‏:‏ للمؤمن الضعيف ، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ بحسب حالهم وما يناسبهم ، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم كَوى ، وأثنَى على تارِك الكىِّ ، وقرن تركَه بالتوكل ، وتَرَكَ الطِّيرة ، ولهذا نظائرُ كثيرة ، وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جداً مَن أعطاها حقَّها ، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها ، أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسُّـنَّةِ الصحيحة ‏.‏

وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه ، ومجانبتِه لأمر طبيعى ، وهو انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح ، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له ، وأما أكلُه معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة ولحظة واحدة ، فنَهى سداً للذريعة ، وحِمايةً للصحة ، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة ، فلا تعارُضَ بين الأمرين ‏.‏

وقالت طائفة أُخرى ‏:‏ يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذي أكل معه به من الجُذام أمرٌ يسير لا يُعدى مثله ، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً ، ولا العدوى حاصلة من جميعهم ، بل منهم مَن لا تضرُّ مخالطته ، ولا تُعدى ، وهو مَن أصابه من ذلك شىء يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه ، فهو أن لا يعدِىَ غيره أولى وأحرى ‏.‏

وقالت فِرقة أُخرى ‏:‏ إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تُعدى بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه ، فأبطل النبىُّ صلى الله عليه وسلم اعتقادَهم ذلك ، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذي يُمرض ويَشفى ، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التي جعلها الله مُفضية إلى مسبباتها ، ففى نهيه إثباتُ الأسباب ، وفى فعله بيان أنها لا تستقِلُّ بشىء ، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئاً ، وإن شاء أبقى عليها قُواها فأثَّرت ‏.‏

وقالت فِرقة أُخرى ‏:‏ بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ، فيُنظر في تاريخها ، فإن عُلِمَ المتأخر منها ، حُكِمَ بأنه الناسخ ، وإلا توقفنا فيها ‏.‏

وقالت فِرقة أُخرى ‏:‏ بل بعضُها محفوظ ، وبعضها غيرُ محفوظ ، وتكلمت في حديث ‏:‏ ‏(‏لا عَدّوَى‏)‏ ، وقالت ‏:‏ قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلاً ، ثم شكَّ فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا ‏:‏ سمعناك تُحدِّث به ، فأبى أن يُحدِّث به ‏.‏

قال أبو سلمة ‏:‏ فلا أدرى ، أنسىَ أبو هريرة ، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ‏؟‏

وأما حديثُ جابر ‏:‏ أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيدِ مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ ، وغاية ما قال فيه الترمذى ‏:‏ إنه غريب ، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه ‏.‏ وقد قال شعبة وغيرُه ‏:‏ اتقوا هذه الغرائبَ ‏.‏ قال الترمذى‏:‏ ويُروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأنُ هذين الحديثين اللَّذين عُورض بهما أحاديثُ النهى ، أحدهما ‏:‏ رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره ، والثانى ‏:‏ لا يَصِحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب ‏(‏المفتاح‏)‏ ، بأطولَ من هذا ‏.‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في المنع من التداوى بالمحرَّمات

روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال ‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاء ، وَجَعَلَ لِكُلِّ داءٍ دواءً ، فَتَدَاوَوْا ، ولا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرَّم‏)‏ ‏.‏

وذكر البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن ابن مسعود ‏:‏

‏(‏إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ عن أبى هريرة ، قال ‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ ‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ ، أنه سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر ، فنهاه ، أو كَرِهَ أن يصنَعَها ، فقال ‏:‏ إنما أصنعُها للدواء ، فقال ‏:‏ ‏(‏إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏السنن‏)‏ أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر يُجْعَل في الدَّواء ، فقال ‏:‏ ‏(‏إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ‏)‏ رواه أبو داود ، والترمذى‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله ؛ إنَّ بأرضنا أعناباً نَعتصِرُها فنشرب منها ، قال ‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ ‏.‏ فراجعتُه ، قلتُ ‏:‏ إنَّا نستشفى للمريض قال ‏:‏ ‏(‏إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏سنن النسائى‏)‏ أنَّ طبيباً ذَكر ضِفْدَعاً في دواءٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن قَتْلِها ‏.‏

ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏:‏ ‏(‏مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ ، فَلا شَفَاهُ اللهُ‏)‏ ‏.‏

المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلاً وشرعاً ، أمَّا الشرعُ فما ذكرْنا من هذه الأحاديثِ وغيرها ‏.‏ وأمَّا العقلُ ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه ، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيباً عقوبةً لها ، كما حرَّمه على بنى إسرائيلَ بقوله ‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء ‏:‏ 160‏]‏، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه ، وتحريمُه له حِمية لهم ، وصيانة عن تناوله ، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل ، فإنه وإن أثَّر في إزالتها ، لكنه يُعْقِبُ سَقَماً أعظمَ منه في القلب بقوة الخُبث الذي فيه ، فيكون المُدَاوَى به قد سعى في إزالة سُقْم البدن بسُقْم القلب ‏.‏

وأيضاً فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق ، وفى اتخاذه دواء حضٌ على الترغيب فيه وملابسته ، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع ، وأيضاً فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة ، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً ‏.‏

وأيضاً فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث ، لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالاً بَيِّناً ، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً ، اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثاً ، فكيف إذا كان خبيثاً في ذاته ، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة ، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته ‏.‏

وأيضاً فإنَّ في إباحة التداوى به ، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة ، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها ، فهذا أحبُّ شىءٍ إليها ، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله بكُلِّ ممكن ، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله ، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً ‏.‏

وأيضاً فإنَّ في هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من الشِّفاء ، ولنفرضْ الكلام في أُمِّ الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاءً قَطُّ ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذي هو مركزُ العقل عند الأطباء ، وكثير من الفقهاء والمتكلمين ‏.‏

قال ‏(‏أبقراط‏)‏ في أثناء كلامه في الأمراض الحادة ‏:‏ ضرر الخمرة بالرأس شديد ‏.‏ لأنه يُسرع الارتفاع إليه ‏.‏ ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن ، وهو لذلك يضر بالذهن ‏.‏

وقال صاحب ‏(‏الكامل‏)‏ ‏:‏ إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ والعَصَب ‏.‏

وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان ‏:‏

أحدهما ‏:‏ تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم ، ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات ، فيبقى كَلاً على الطبيعة مثقلاً لها ، فيصير حينئذ داءً لا دواء ‏.‏

والثانى ‏:‏ ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذي تستعمِلُه الحوامل مثلاً ، فهذا ضررُه أكثرُ من نفعه ، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك ، فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع في ذلك ‏.‏

وهاهنا سِرٌ لطيف في كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها ، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول ، واعتقادُ منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ، فإنَّ النافعَ هو المبارَك ، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها ، والمبارَكُ من الناس أينما كان هو الذي يُنتفَع به حيث حَلَّ ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العَيْن مما يَحولُ بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها ، وبين حُسن ظنه بها ، وتلقِّى طبعه لها بالقبول ، بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيماناً ، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها ، وطبعُه أكره شىء لها ، فإذا تناولها في هذه الحال ، كانت داءً له لا دواء إلا أن يزولَ اعتقادُ الخُبث فيها ، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة ، وهذا يُنافى الإيمان ، فلا يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء ‏.‏‏.‏ والله أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج القَمْلِ الذي في الرأس وإزالته

في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن كعب بن عُجْرةَ ، قال ‏:‏ كان بى أذىً مِن رأسى ، فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والقَمْلُ يَتناثَرُ على وجهى ، فقال ‏:‏ ‏(‏ما كنتُ أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما أرَى‏)‏ ، وفى رواية ‏:‏ فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه ، وأن يُطعِمَ فَرقاً بَيْنَ سِـتَّةٍ ، أو يُهدِىَ شاة ، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ ‏.‏

القمل يتولَّد في الرأس والبدن من شيئين ‏:‏ خارج عن البدن وداخلٍ فيه ، فالخارجُ ‏:‏ الوسخُ والدنس المتراكم في سطح الجسد ، والثانى ‏:‏ من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللَّحم ، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية في البَشَرَةِ بعد خُروجها من المسام ، فيكون مِنه القملُ ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام ، وبسبب الأوساخ ، وإنما كان في رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسباب التي تُولِّد القمل ، ولذلك حَلَقَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم رؤوسَ بنى جعفر ‏.‏

ومن أكبر عِلاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة ، فتتصاعد الأبخرة الرديئة ، فتضعفُ مادة الخلط ، وينبغى أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القمل ، وتمنع تولُّده ‏.‏

وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها ‏:‏ نُسُك وقُربة ‏.‏ والثانى ‏:‏ بِدعة وشرك ‏.‏ والثالث ‏:‏ حاجة ودواء ‏.‏

فالأول ‏:‏ الحلق في أحد النُّسُكين ، الحجِّ أو العُمرة ‏.‏

والثانى ‏:‏ حلقُ الرأس لغير الله سبحانه ‏.‏ كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم ، فيقول أحدهم ‏:‏ أنا حلقتُ رأسى لفلان ، وأنت حلقتَه لفلان ، وهذا بمنزلة أن يقول ‏:‏ سجدتُ لفلان ، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل ، ولهذا كان من تمام الحجِّ ، حتى إنه عند الشافعى ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به ‏.‏ فإنه وضعُ النواصى بين يدى ربها خضوعاً لعظمته ، وتذللاً لعِزَّته ، وهو من أبلغ أنواع العبودية ، ولهذا كانت العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه ، حلقوا رأسه وأطلقُوه ، فجاء شيوخُ الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة ، فأرادوا مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم ، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم ، كما زيَّنوا لهم السجودَ لهم ، وسمَّوه بغير اسمه ، وقالوا ‏:‏ هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ ، ولعَمرُ الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه ، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا لهم ، ويتوبُوا لهم ، ويَحلِفُوا بأسمائهم ، وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً مِن دُونِ الله ، قال تعالى ‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79-80‏]‏‏.‏

وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة ، وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة ، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها ، وهو السجود ، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضاً ركع له كما يركع المُصَلِّى لربه سواء ، وأخذ الجبابرةُ منهم القيامَ ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم ، وهم جلوس ، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأُمور الثلاثة على التفصيل ، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له ، فنَهى عن السجود لغير الله وقال ‏:‏ ‏(‏لا يَنْبغِى لأَحَدٍ أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ‏)‏ ‏.‏ وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال ‏:‏ ‏(‏مَهْ‏)‏ ‏.‏ وتحريمُ هذا معلوم من دينه بالضرورة ، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير الله مُراغمَةٌ للهِ ورسوله ، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية ، فإذا جَوَّز هذا المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر ، فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ ، وقد صَحَّ أنه قيل له ‏:‏ الرَّجُلُ يَلقَى أخاه أَيَنْحَنِى له ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ ‏.‏ قيل ‏:‏ أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ ‏.‏ قيل ‏:‏ أَيُصافِحُه ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏.‏

وأيضاً ‏.‏‏.‏ فالانحناءُ عند التحية سجود ، ومنه قوله تعالى‏:‏

{‏وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 58‏]‏ أى ‏:‏ منحنين ، وإلا فلا يُمكن الدخول على الجباه ، وصَحَّ عنه النهىُ عن القيام ، وهو جالس ، كما تُعَظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضاً ، حتى منع مِن ذلك في الصلاة ، وأمرَهم إذا صَلَّى جالساً أن يُصَلُّوا جلوساً ، وهم أصحاء لا عُذرَ لهم ، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس ، مع أنَّ قيامَهم لله ، فكيف إذا كان القيامُ تعظيماً وعبوديةً لغيره سبحانه ‏.‏

والمقصود ‏.‏‏.‏ أنَّ النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ الله سبحانه ، وأشركت فيها مَن تُعَظِّمه مِن الخلق ، فسجدت لغير الله ، وركعت له ، وقامت بين يديه قيامَ الصلاة ، وحلفت بغيره ، ونذرَتْ لغيره ، وحَلَقَتْ لغيره ، وذبحت لغيره ، وطافت لِغير بيته ، وعَظَّمته بالحب ، والخوف ، والرجاء ، والطاعة ، كما يُعَظَّم الخالقُ ، بل أشد ، وسوَّتْ مَن تعبُده من المخلوقين بربِّ العالمين ، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرُّسُل ، وهم الذين بربهم يَعدِلون ، وهم الذين يقولون وهم في النار مع آلهتهم يختصمون ‏:‏ ‏{‏تَاللهِ إن كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء ‏:‏ 98‏]‏ ، وهم الذين قال الله فيهم ‏:‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ‏}‏ ‏[‏البقرة ‏:‏ 165‏]‏وهذا كُلُّه مِن الشِّرك ، والله لا يغفر أَنْ يُشْرَكَ به ‏.‏ فهذا فصل معترض في هَدْيه في حلق الرأس ، ولعله أهمُّ مما قُصِدَ الكلام فيه ‏.‏‏.‏ والله الموفق ‏.‏

فصول في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة ، والمركَّبة منها ، ومن الأدوية الطبيعية

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعَيْنِ

روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن ابن عباس ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏العَيْنُ حَقٌ ولو كان شَىْءٌ سَابَقَ القَدَرِ ، لَسَبَقتْهُ العَيْنُ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏صحيحه‏)‏ أيضاً عن أنس ‏:‏ ‏(‏أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم رخَّصَ في الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ‏)‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبى هريرة ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏العَيْنُ حَقٌ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏ عن عائشة رضى الله عنها ، قالت ‏:‏ كان يُؤمَرُ العائِنُ فيتوضَّأ ، ثم يَغْتَسِلُ منه المَعِينُ ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن عائشة قالت ‏:‏ أمرنى النبىُّ صلى الله عليه وسلم أو أَمَرَ أن نَسْتَرْقِىَ من العَيْن ‏.‏

وذكر الترمذى ، من حديث سفيان بن عُيَينةَ ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس قالت ‏:‏ يا رسولَ الله ؛ إنَّ بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ ، أفأسترْقِى لهم ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏نعم فَلَوْ كان شَىْءٌ يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ‏)‏ قال الترمذى ‏:‏ حديث حسن صحيح ‏.‏

وروى مالك رحمه الله ، عن ابن شهابٍ ، عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ ، قال ‏:‏ رأى عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسِلُ ، فقال ‏:‏ واللهِ ما رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة ، قال ‏:‏ فلُبِطَ سَهْلٌ ، فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامراً ، فتَغَيَّظَ عليه ، وقال ‏:‏ ‏(‏عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ ‏؟‏ ألاَ بَرَّكْتَ ‏؟‏ اغْتَسِلْ له‏)‏ ، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه ورُكبتيه ، وأطرافَ رِجليه ، وداخِلَة إزاره في قدح ، ثم صبَّ عليه ، فراحَ مع الناس ‏.‏

وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل ، عن أبيه هذا الحديث ، وقال فيه ‏:‏ ‏(‏إنَّ العيْنَ حقٌ ، توضَّأْ لهُ‏)‏ ، فتوضَّأ له ‏.‏

وذكر عبد الرزَّاق ، عن مَعْمَرٍ ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مرفوعاً ‏:‏ ‏(‏العَيْنُ حَقٌ ، ولو كان شىءٌ سَابَقَ القَدَرَ ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ ، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ ، فَلْيَغْتَسِلْ‏)‏ ، ووصْله صحيحٌ ‏.‏

قال الزُّهْرى ‏:‏ يُؤْمَر الرجل العائن بقدح ، فيُدخِلُ كفَّه فيه ، فيتمضمض ، ثم يَمُجّه في القدح ، ويغسِلُ وجهه في القدح ، ثم يُدخِل يده اليُسرى ، فيصُبُّ على رُكبته اليُمنى في القَدَح ، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى ، فيصُبُّ على رُكبته اليُسرى ، ثم يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ ، ولا يُوضع القَدَحُ في الأرض ، ثم يُصَبُّ على رأس الرجل الذي تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً ‏.‏

والعَيْن عَيْنان ‏:‏ عَيْنٌ إنسية ، وعَيْنٌ جِنِّية ‏.‏ فقد صح عن أُمِّ سلمةَ ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جاريةً في وجهها سَفْعَةٌ ، فقال ‏:‏ ‏(‏اسْتَْرقُوا لها ، فإنَّ بها النَّظرَة‏)‏ ‏.‏

قال الحسين بن مسعود الفرَّاء ‏:‏ وقوله ‏(‏سَفْعَة‏)‏ أى ‏:‏ نظرة ، يعنى من الجن، يقول ‏:‏ بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّـنَة الرِماح ‏.‏

ويُذكر عن جابر يرفعه ‏:‏ ‏(‏إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ القَبْرَ ، والجَمَلَ القِدْرَ‏)‏ ‏.‏

وعن أبى سعيد ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ من الجان ، ومن عَيْن الإنسان ‏.‏

فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ العَيْن ، وقالوا ‏:‏ إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقةَ لها ، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ والعقل ، ومِن أغلظهم حِجاباً ، وأكثفِهم طِباعاً ، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوسِ ، وصفاتها وأفعالِها وتأثيراتها ، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم ونِحلهم لا تدفَعُ أمر العَيْن ، ولا تُنكره ، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العَيْن ‏.‏

فقالت طائفة ‏:‏ إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة ، انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين ، فيتضرر ‏.‏ قالوا ‏:‏ ولا يُستنكر هذا ، كما لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان ، فيهلكِ ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك ، فكذلك العائنُ ‏.‏

وقالت فِرقة أُخرى ‏:‏ لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية ، فتتصل بالمَعِين ، وتتخلل مسامَ جسمه ، فيحصل له الضررُ ‏.‏

وقالت فِرقة أُخرى ‏:‏ قد أجرى الله العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ ولا تأثيرٌ أصلاً ، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى والتأثيرات في العالَم ، وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب ، وخالفوا العقلاء أجمعين ‏.‏

ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قُوَى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة ، ولا يمكن لعاقل إنكارُ تأثير الأرواح في الأجسام ، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس ، وأنت ترى الوجهَ كيف يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه ، ويصفرُّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه ، وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه ، وهذا كُلُّه بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها ، وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثيرُ للرَّوح ‏.‏ والأرواحُ مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها ، فروحُ الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّناً ‏.‏ ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به من شره ‏.‏ وتأثيرُ الحاسد في أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارج عن حقيقةِ الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعَيْن ، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّفُ بكيفية خبيثة ، وتُقَابِلُ المحسود ، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية ، وأشبهُ الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة ، فإذا قابلتْ عدوَّها ، انبعثت منها قوة غضبية ، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية ، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ، ومنها ما تؤثر في طمس البصر ، كما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم في الأَبْتَر ، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات ‏:‏ ‏(‏إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ ، ويُسقطان الحَبَلَ‏)‏ ‏.‏

ومنها ‏:‏ ما تُؤثر في الإنسان كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خُبْثِ تلك النفس ، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة ، والتأثيرُ غيرُ موقوف على الاتصالات الجسمية ، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال ، وتارةً بالمقابلة ، وتارةً بالرؤية ، وتارةً بتوجه الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه ، وتارةً بالأدعية والرُّقَى والتعوُّذات ، وتارةً بالوهم والتخيُّل ، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها على الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيُوصف له الشىء ، فتؤثِّرُ نفسه فيه ، وإن لم يره ، وكثيرٌ من العائنين يُؤثر في المَعِين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال تعالى لنبيه‏:‏‏{‏وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ‏}‏ ‏[‏القلم ‏:‏ 51‏]‏وقال ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ‏}‏ فكلُّ عائنٌ حاسدٌ ، وليس كلُّ حاسد عائناً

فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن ، كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن ، وهى سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه تارة ، فإن صادفْته مكشوفاً لا وِقاية عليه ، أثَّرتْ فيه ، ولا بُدَّ ، وإن صادفته حَذِراً شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام ، لم تُؤثر فيه ، وربما رُدَّتْ السهامُ على صاحبها ، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء ، فهذا مِن النفوس والأرواح ، وذاك مِن الأجسام والأشباح ‏.‏ وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشىء ، ثم تتبعه كيفيةُ نفسِه الخبيثة ، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين ، وقد يَعِينُ الرجلُ نفسَه ، وقد يَعينُ بغير إرادته ، بل بطبعه ، وهذا أردأ ما يكونُ من النوع الإنسانى ، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء ‏:‏ إنَّ مَن عُرِفَ بذلك ، حبَسه الإمامُ ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت ، وهذا هو الصوابُ قطعاً ‏.‏

فصل‏:‏ في أنواع المقصود بالعلاج النبوى لهذه العِلَّة

والمقصودُ ‏:‏ العلاجُ النبوىُّ لهذه العِلَّة ، وهو أنواعٌ ، وقد روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ عن سهل بن حُنَيفٍ ، قال ‏:‏ مررْنا بَسيْلٍ ، فدخلتُ ، فاغتسلتُ فيه ، فخرجتُ محموماً ، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ ‏(‏مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ‏)‏ ‏.‏ قال ‏:‏ فقلتُ ‏:‏ يا سيدى ؛ والرُّقَى صالحة ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏لا رُقيةَ إلا في نَفْسٍ ، أو حُمَةٍ ، أو لَدْغَةٍ‏)‏ ‏.‏

والنَّفْس ‏:‏ العَيْن ، يقال ‏:‏ أصابت فلاناً نفسٌ ، أى ‏:‏ عَيْن ‏.‏ والنافِس ‏:‏ العائن ‏.‏ واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها ‏.‏

فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين ، وفاتحةِ الكتابِ ، وآيةِ الكُرسى ، ومنها التعوذاتُ النبوية ‏.‏

نحو ‏:‏ ‏(‏أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق‏)‏ ‏.‏

ونحو ‏:‏ ‏(‏أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ ، ومِن كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ‏)‏ ‏.‏

ونحو ‏:‏ ‏(‏أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التي لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا فاجرٌ ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ ، ومِن شَرِّ ما ينزلُ من السماء ، ومِن شَرِّ ما يَعرُجُ فيها ، ومِن شَرِّ ما ذرأ في الأرض ، ومِن شَرِّ ما يخرُج مِنها ، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار ، ومِن شَرِّ طَوَارق الليلِ ، إلا طارقاً يَطرُق بخير يا رحمن‏)‏ ‏.‏

ومنها ‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه وعِقَابه ، ومِن شرِّ عباده ، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ‏)‏ ‏.‏

ومنها ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم ، وكلماتِك التامَّاتِ من شرِّ ما أنت آخِذٌ بناصيته ، اللَّهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ والمَغْرَمَ ، اللَّهُمَّ إنه لا يُهْزَمُ جُنْدُكَ ، ولا يُخلَفُ وعدُك ، سبحانَك وبحمدِك‏)‏ ‏.‏

ومنها ‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذي لا شىءَ أعظمُ منه ، وبكلماتِه التامَّات التي لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ ، وأسماءِ الله الحُسْنَى ، ما علمتُ منها وما لم أعلم ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ ، ومن شَرِّ كُلِّ ذى شرٍّ لا أُطيق شرَّه ، ومِن شَرِّ كُلِّ ذى شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته ، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم‏)‏‏.‏

ومنها ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ ، عليك توكلتُ ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم ، ما شاء اللهُ كان ، وما لم يشأْ لم يكن ، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله ، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شىء قديرٌ ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شىء علماً ، وأحصَى كُلَّ شىءٍ عدداً ، اللَّهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى ، وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه ، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها ، إنَّ ربِّى على صِراط مستقيم‏)‏ ‏.‏

وإن شاء قال ‏:‏ ‏(‏تحصَّنتُ باللهِ الذي لا إله إلا هُوَ ، إلهى وإله كُلِّ شىء ، واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شىء ، وتوكلتُ على الحىِّ الذي لا يموتُ ، واستَدْفَعتُ الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله ، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ ، حسبىَ الربُّ مِن العباد ، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق ، حسبىَ الرازقُ مِنَ المرزوق ، حسبىَ الذي هو حسبى ، حسبىَ الذي بيده ملكوتُ كُلِّ شىءٍ ، وهو يُجيرُ ولا يُجَارُ عليه ، حسبىَ الله وكَفَى ، سَمِعَ الله لمنْ دعا ، ليس وراء اللهِ مرمَى ، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ ، عليه توكلتُ ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم‏)‏ ‏.‏

ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ ، عَرَفَ مِقدار منفعتها ، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها ، وهى تمنعُ وصول أثر العائن ، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوةِ نفسه ، واستعداده ، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاحُ بضاربه ‏.‏

فصل‏:‏ في ما يُدفع به إصابة العَيْن

وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين ، فليدفع شرِّها بقوله ‏:‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ عليه ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف‏:‏ ‏(‏ألا برَّكْتَ ‏)‏ أى ‏:‏ قلتَ ‏:‏ اللَّهُمَّ بارِكْ عليه ‏.‏

ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ ‏:‏ ‏(‏ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله‏)‏ ، روى هشام ابن عروة ، عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئاً يُعجِبُه ، أو دخل حائطاً مِن حِيطانه، قال ‏:‏ ‏(‏ما شاء الله ، لا قُوَّة إلا بالله‏)‏ ‏.‏

ومنها رُقْـيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ ‏:‏ ‏(‏باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤذيكَ ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ ، باسمِ اللهِ أرْقِيكَ‏)‏ ‏.‏

ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن ، ثم يشربَها ‏.‏ قال مجاهد ‏:‏ لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ ، ويغسِلَه ، وَيْسقِيَه المريضَ ، ومثلُه عن أبى قِلابَةَ ‏.‏ ويذكر عن ابن عباس ‏:‏ أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ عليها وِلادُها أثرٌ من القرآن ، ثم يُغسل وتُسقى ‏.‏ وقال أيوب ‏:‏ رأيتُ أبا قِلابَةَ كتب كتاباً من القرآن ، ثم غسله بماء ، وسقاه رجلاً كان به وجعٌ ‏.‏

فصل‏:‏ في أمر العائن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره

ومنها ‏:‏ أن يُؤمر العائِنُ بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره ، وفيه قولان ؛ أحدهما ‏:‏ أنه فرجُه ‏.‏ والثانى ‏:‏ أنه طرفُ إزاره الداخل الذي يلى جسدَه من الجانب الأيمن ، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين مِن خلفه بغتة ، وهذا مما لا ينالُه عِلاجُ الأطباء ، ولا ينتفِعُ به مَن أنكره ، أو سَخِرَ منه ، أو شَكَّ فيه ، أو فعله مجرِّباً لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعُه ‏.‏

وإذا كان في الطبيعة خواصٌ لا تَعْرِفُ الأطباءُ عِلَلَها ألبتةَ ، بل هي عندهم خارجةٌ عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصِّية ، فما الذي يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من الخواص الشرعية ، هذا مع أنَّ في المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهدُ له العقولُ الصحيحة ، وتُقِرُّ لمناسبته ، فاعلم أنَّ تِرياق سُمِّ الحيَّة في لحمها ، وأنَّ علاجَ تأثير النفس الغضَبية في تسكين غضبها ، وإطفاء ناره بوضع يَدِكَ عليه ، والمسح عليه ، وتسكينِ غضبه ، وذلك بمنزلة رجل معه شُعلة من نار ، وقد أراد أن يَقذِفَك بها ، فصبِبِتَ عليها الماء ، وهى في يده حتى طُفئتْ ، ولذلك أُمِرَ العائِنُ أن يقول ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بارِكْ عَلَيْه‏)‏ ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسانٌ إلى المَعِين ، فإنَّ دواء الشىء بضِدِّه ‏.‏ ولما كانت هذه الكيفيةُ الخبيثة تظهر في المواضِع الرقيقة من الجسد ، لأنها تطلب النفوذَ ، فلا تجد أرقَّ مِن المغابن ، وداخِلَةِ الإزار ، ولا سِيَّما إن كان كنايةً عن الفَرْج ، فإذا غُسِلَتْ بالماء ، بطل تأثيرها وعملها ، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص ‏.‏

والمقصود ‏:‏ أنَّ غسلها بالماء يُطفىء تلك النارية ، ويَذهبُ بتلك السُّمِّية ‏.‏

وفيه أمر آخر ، وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أرقِّ المواضع وأسرعها تنفيذاً ، فيُطفىء تلك النارية والسُّمِّية بالماء ، فيشفى المَعِين ، وهذا كما أنَّ ذواتِ السموم إذا قُتِلت بعد لَسعها ، خَفَّ أثرُ اللسعة عن الملسوع ، ووَجد راحة ، فإن أنفسَها تمدُّ أذاها بعد لَسعها ، وتُوصِله إلى الملسوع ‏.‏ فإذا قُتِلَتْ ، خَفَّ الألم ، وهذا مُشَاهَد ‏.‏ وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع ، واشتفاءُ نفسه بقتل عدوِّه ، فتقوى الطبيعة على الألم ، فتدفعه ‏.‏

وبالجملة ‏.‏‏.‏ غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التي ظهرت منه ، وإنما ينفع غسلُه عند تكيُّفِ نفسه بتلك الكيفية ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ فقد ظهرت مناسبةُ الغسل ، فما مناسبةُ صبِّ ذلك الماء على المَعِين ‏؟‏

قيل ‏:‏ هو في غاية المناسبة ، فإنَّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك النارية ، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ، فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعِل طُفئت به ، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائِن ، والماءُ الذي يُطفأ به الحديدُ يدخُل في أدوية عِدَّة طبيعية ذكرها الأطباء ، فهذا الذي طُفىء به نارية العائِن ، لا يُستنكر أن يدخل في دواء يُناسب هذا الداء ‏.‏

وبالجملة ‏.‏‏.‏ فطب الطبائعية وعلاجُهم بالنسبة إلى العلاج النبوىِّ ، كطب الطُّرقية بالنسبة إلى طبهم ، بل أقل ، فإنَّ التفاوتَ الذي بينهم وبين الأنبياء أعظمُ ، وأعظمُ من التفاوت الذي بينهم وبين الطُّرقية بما لا يُدرِكُ الإنسان مقداره ، فقد ظهر لك عقدُ الإخاء الذي بين الحِكمة والشرع ، وعدمُ مناقضة أحدهما للآخر ، واللهُ يهدى مَن يشاء إلى الصواب ، ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه كُلَّ باب ، وله النعمة السابغة ، والحُجَّة البالغة ‏.‏

فصل‏:‏ في ستر محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردها عنه

ومن علاج ذلك أيضاً والاحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردُّها عنه ، كما ذكر البغوىُّ في كتاب ‏(‏شرح السُّـنَّة‏)‏ ‏:‏ أنَّ عثمان رضى الله عنه رأى صبياً مليحاً ، فقال ‏:‏ دَسِّمُوا نُونَتَه ، لئلا تُصيبه العَيْن ، ثم قال في تفسيره ‏:‏ ومعنى ‏(‏دسِّمُوا نونته‏)‏ أى ‏:‏ سَوِّدُوا نونته ، والنونة ‏:‏ النُّقرة التي تكون في ذقن الصبىِّ الصغير ‏.‏

وقال الخطَّابى في ‏(‏غريب الحديث‏)‏ له عن عثمان ‏:‏ إنه رأى صبياً تأخذه العَيْن ، فقال ‏:‏ دسِّموا نونته ‏.‏ فقال أبو عمرو ‏:‏ سألت أحمد بن يحيى عنه ، فقال ‏:‏ أراد بالنونة ‏:‏ النُّقرة التي في ذقنه ‏.‏ والتدسيمُ ‏:‏ التسويد ‏.‏ أراد ‏:‏ سَوِّدُوا ذلك الموضع من ذقنه ، ليرد العَيْن ‏.‏ قال ومن هذا حديثُ عائشةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذاتَ يومٍ ، وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أى ‏:‏ سوداء أراد الاستشهاد على اللَّفظة ، ومن هذا أخذ الشاعرُ قَوله ‏:‏

مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى ** عَيبٍ يُوَقِّيـهِ مِـنَ الْعَيْنِ

فصل‏:‏ في الرُّقَى التي ترد العَيْن

ومن الرُّقَى التي تردُّ العَيْن ما ذُكر عن أبى عبد الله السَّاجى ، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارِهَةٍ ، وكان في الرفقة رجل عائن ، قلَّما نظر إلى شىء إلا أتلفه ، قيل لأبى عبد الله ‏:‏ احفَظْ ناقَتكَ مِنَ العائِن ، فقال ‏:‏ ليس له إلى ناقتى سبيل ، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله ، فتَحيَّنَ غَيبة أبى عبد الله ، فجاء إلى رَحْله ، فنَظر إلى الناقةَ ، فاضطربتْ وسقطت ، فجاء أبو عبد الله ، فأُخْبِرَ أنَّ العائِنَ قد عانها ، وهى كما ترى ، فقال ‏:‏ دُلُّونى عليه ‏.‏ فدُلَّ ، فوقف عليه، وقال ‏:‏ بسمِ اللهِ ، حَبْسٌ حابسٌ ، وحَجَرٌ يابِسٌ ، وشِهابٌ قابِسٌ ، ردَّت عين العائن عليه ، وعلى أحبِّ الناس إليه ، ‏{‏فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك ‏:‏ 3-4‏]‏ فخرجتْ حَدَقَتا العائنِ ، وقامت الناقةُ لا بأسَ بها ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرُّقية الإلهية

روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ ‏:‏ من حديث أبى الدرداء ، قال ‏:‏ سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول ‏:‏ ‏(‏مَن اشتكى منكم شيئاً ، أو اشتكاهُ أخٌ له فلْيقُلْ ‏:‏ رَبَّنا اللهَ الذي في السَّماء ، تقدَّسَ اسْمُكَ ، أَمْرُكَ في السَّماء والأرضِ كما رَحْمَتُك في السَّماءِ ، فاجعل رحمتكَ في الأرض ، واغفر لنا حُوْبَنَا وخطايانا أنتَ ربُّ الطَّيِّبِين ، أنْزِلْ رحمةً من رحمتك ، وشفاءً من شفائك على هذا الوَجَع ، فيَبْرأ بإذْنِ اللهِ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عن أبى سعيد الخُدْرِى ، أنَّ جبريلَ عليه السلام أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا محمدُ ؛ أشتكيْتَ ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ ‏.‏ فقال جبريلُ عليه السلام ‏:‏ ‏(‏باسمِ اللهِ أَرقيكَ مِن كُلِّ شىءٍ يُؤذيكَ ، مِن شَرِّ كُلِّ نفْسٍ أو عَيْن حاسدٍ اللهُ يَشفيكَ ، باسمِ اللهِ أرقيكَ‏)‏ ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود ‏:‏ ‏(‏لا رُقيةَ إلا من عَيْنٍ، أو حُمَةٍ‏)‏ ، والحُمَةُ ‏:‏ ذوات السُّموم كلها ‏؟‏

فالجواب ‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية في غيرها ، بل المرادُ به ‏:‏ لا رُقية أولى وأنفعُ منها في العَيْن والحُمَة ، ويدل عليه سياقُ الحديث ، فإنَّ سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته العَيْن ‏:‏ أوَ في الرُّقَى خير ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏لا رُقيةَ إلا في نَفْسٍ

أو حُمَةٍ‏)‏ ويدل عليه سائرُ أحاديث الرُّقَى العامة والخاصة ، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال ‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا رُقْيَةَ إلا مِن عَيْنٍ ، أو حُمَةٍ ، أو دَمٍ يَرْقأُ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ عنه أيضاً ‏:‏‏(‏رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ‏)‏ ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة

أخرجا في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أبى سعيد الخدرى ، قال ‏:‏ ‏(‏انْطلَقَ نَفَرٌ من أصحابِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرُوها حتى نزلوا على حىٍّ مِن أحياءِ العرب ، فاسْتَضَافوهم ، فأبَوْا أن يُضَيِّفُوهُم ، فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحىِّ ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُه شىء ، فقال بعضهم ‏:‏ لو أتيتُم هؤلاءِ الرَّهطَ الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شىء ‏.‏ فأتوهم ، فقالوا ‏:‏ يا أيُّهَا الرَّهطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ ، وسَعينا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُهُ ، فَهَلْ عِنْدَ أحدٍ منكم من شىء ‏؟‏ فقال بعضُهم ‏:‏ نعم واللهِ إنى لأَرْقى ، ولكن اسْتَضَفْناكُمْ ، فلم تَضيِّفُونَا ، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا لنا جُعْلاً ، فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم ، فانطلَقَ يَتْفُل عليه ، ويقرأ ‏:‏ ‏{‏الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، فكأنما أُنشِطَ من عِقَالٍ ، فانطلق يمشى وما به قَلَبَةٌ، قال ‏:‏ فأوفَوْهُم جُعْلَهُم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضُهم ‏:‏ اقتسِمُوا ، فقال الذي رَقَى ‏:‏ لا تفعلوا حتى نأتىَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فنذكُرَ له الذي كان ، فننظُرَ ما يأمرُنا ، فَقَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له ذلك ، فقال ‏:‏ ‏(‏وما يُدْريكَ أنَّها رُقْيَةٌ‏)‏ ‏؟‏ ، ثم قال ‏:‏ ‏(‏قد أصَبْتُم ، اقسِمُوا واضْرِبوا لى مَعَكُم سهماً‏)‏ ‏.‏

وقد روى ابن ماجه في ‏(‏سننه‏)‏ من حديث على قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ‏)‏ ‏.‏

ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة ، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين ، الذي فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه الذي هو الشفاءُ التام ، والعِصْمةُ النافعة ، والنورُ الهادى ، والرحمة العامة ، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الإسراء ‏:‏ 82‏]‏ ‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، هذا أصَحُّ القولين ، كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرَاً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح ‏:‏29‏]‏ وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التي لم يُنزل في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزَّبور مِثلُها ، المتضمنة لجميع معانى كتب الله ، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها ، وهى ‏:‏ الله ، والرَّب ، والرحمن ، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين ‏:‏ توحيدِ الربوبية ، وتوحيدِ الإلهية ، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه في طلبِ الإعانة وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ وأفرَضِه ، وما العبادُ أحوج شىءٍ إليه ، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم ، المتضمن كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به ، واجتنابِ ما نَهَى عنه ، والاستقامة عليه إلى الممات ، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة الحق ، والعمل به ، ومحبته ، وإيثاره ، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له ، وضال بعدم معرفته له‏.‏ وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر ، والشرع ، والأسماء ، والصفات ، والمعاد ، والنبوات ، وتزكيةِ النفوس ، وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله وإحسانه ، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل ، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير ‏(‏مدارج السالكين‏)‏ في شرحها ‏.‏ وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ شأنها ، أن يُستشفى بها من الأدواء ، ويُرقَى بها اللَّديغُ ‏.‏

وبالجملة ‏.‏‏.‏ فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على اللهِ ، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النِّعَم كُلِّها ، وهى الهداية التي تجلبُ النِّعَم ، وتدفَعُ النِّقَم ، من أعظم الأدوية الشافية الكافية ‏.‏

وقد قيل ‏:‏ إنَّ موضع الرُّقْيَة منها ‏:‏‏{‏إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة ‏:‏ 4‏]‏ ، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل ، والالتجاء والاستعانة ، والافتقارِ والطلبِ ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهى عبادةُ الربِّ وحده ، وأشرف الوسائل وهى الاستعانةُ به على عبادته ما ليس في غيرها ، ولقد مرَّ بى وقت بمكة سَقِمْتُ فيه ، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء ، فكنت أتعالج بها ، آخذ شربةً من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مراراً ، ثم أشربه ، فوجدتُ بذلك البرءَ التام ، ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع ‏.‏

فصل‏:‏ في أنَّ لتأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها سراً بديعاً في علاج ذواتِ السُّموم

وفى تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها في علاج ذواتِ السُّموم سِرٌ بديع ، فإنَّ ذواتِ السموم أثَّرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة ، كما تقدَّم ، وسِلاحها حُماتها التي تلدَغُ بها ، وهى لا تلدغ حتى تغضَب ، فإذا غضبت ، ثار فيها السُّمُّ ، فتقذفه بآلتها ، وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً ، ولكل شىءٍ ضِداً ، ونفس الراقى تفعلُ في نفس المرقى ، فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ ، كما يقع بين الداء والدواء ، فتقوى نفسُ الراقى وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء ، فيدفعُه بإذن اللهِ ، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال ، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين ، يقع بين الداء والدواء الروحانيين ، والروحانى ، والطبيعى ، وفى النَّفْث والتَّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء ، والنفس المباشر للرُّقية ، والذِكْر والدعاء ، فإنَّ الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه ، فإذا صاحبها شىءٌ من أجزاء باطنه من الرِّيق والهواء والنَّفَس ، كانت أتمَّ تأثيراً ، وأقوى فعلاً ونفوذاً ، ويحصُل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية ‏.‏

وبالجملة ‏.‏‏.‏ فنفْسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة ، وتزيدُ بكيفية نفسه ، وتستعين بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر ، وكلَّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى ، كانت الرُّقيةُ أتمَّ ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ الرديئة بلسعها ‏.‏

وفى النفث سِرٌ آخر ، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة ، ولهذا تفعلُه السَّّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان ‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ‏}‏، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب والمحاربة ، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهاماً لها ، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذي معه شىء مِن الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة ، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً ، وإن لم تتصل بجسم المسحور ، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها ، وتتكلم بالسِّحْر ، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة ، فتقابِلُها الرَّوح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرُّقية ، وتستعينُ بالنفث ، فأيُّهُما قَوِىَ كان الحكمُ له ، ومقابلةُ الأرواح بعضها لبعض ، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام ، ومحاربتها وآلتها سواء ، بل الأصلُ في المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها وجندها ، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه ، وبُعْدِهِ من عالَم الأرواح ، وأحكامها ، وأفعالها ‏.‏

والمقصود ‏.‏‏.‏ أنَّ الرَّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ بمعانى الفاتحة ، واستعانت بالنفث والتفْل ، قابلت ذلك الأثَر الذي حصل من النفوس الخبيثة ، فأزالته ‏.‏‏.‏ والله أعلم ‏.‏